مطارحات في العقيدة \ كمال الحيدري 200

السبت، 20 نوفمبر 2010

من أسرار القرآن الكريم ... "فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون"

من أسرار القرآن الكريم ... "فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون"

بسم الله الرحمن الرحيم


قال تعالى: “إنا كل شيء خلقناه بقدر” القمر ،49 قدر الله تعالى الأشياء كلها قبل بدء الخلق، وسجل تقديرها في اللوح المحفوظ عنده بمواصفات، ودقائقها وأفعالها وحركاتها، ثم صورها وأبدع وجودها بقدرها الذي قدره لها بتمامه، وبالايجاد والخلق خرجت للحياة كما شاء الله تعالى أن تخرج، وبما قدر لها أن تكون، وهي تسير على وفق ما أراد الله تعالى وحدد، وعلى الوضع الذي خصصه الله لها أن تكون عليه، لم يتخلف شيء عن حضوره، ولم ينقص عن الميزان شيء في تقديره، ولم يختلف وزن عن مثقاله، ولا أمر عن خصائصه.

“هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين” لقمان 11.


الفكر الفلسفي الإسلامي



في عهد انتشار الفلسفة الإسلامية وعلم التوحيد (علم الكلام) وانتشار الفكر الفلسفي وشيوع الجدل العلمي، رأينا نشاط علماء المسلمين المتعدد، وكيف أنهـم قتلوا المسائل الفكرية بحثاً، وأشبعوها جدلاً ومنطقاً وفكراً، وتكلموا في القضاء والقدر وهل الإنسان مسير أم مخير؟ والفرق بين أفعال الله وأفعال العباد، ونشأ من بعد ذلك علماء تأسسوا على هذا الفكر الراجح، والعلم البارع، ونهلوا منه وتتلمذوا في هذه المدرسة الفكرية وتخرجوا فيها، ثم انطلقوا يثرون المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب، وأصول العلوم الحضارية في كل المجالات من ثقافة وأدب، وأرسوا قواعد الحضارة الإسلامية، ومنهم: ابن سينا والغزالي والفارابي والخوارزمي وابن الهيثم وابن الصلاح وابن النفيس والكندي.. الخ، فانطلقت علومهم تنير الآفاق وتضيء الظلمات، وتكشف الغموض، وترفع الجهالات، مما يؤكد نبوغ العقل البشري وقدرته الفائقة على البحث والإنتاج، والمهارة الفائقة في حسن التصريف، وتسخير العلوم المتنوعة في الحياة العملية، والقدرة الذهنية في التدبير، والتمحيص، والإبداع، والتفكير العميق.

لقد تكلم العلماء في صفات الله تعالى ووازنوا بين العلم والقدرة والإرادة (من صفات المعاني) وما إلى ذلك من أبواب (علم الكلام) وقالوا إن العلم كاشف للخصائص، والإرادة محددة، والقدرة منفذة، وكان لهذا الفكر ذلك الأثر الفعال في مسيرة الحضارة الإسلامية التي عنيت بالنظرية التأسيسية والتجربة الواقعية معاً، وخصصت لها أناساً يهتمون بالتخطيط ووضع البرامج ورسم الخرائط وجدولة المواصفات وتوقع المشكلات ووضع الحلول المناسبة لحلها، ثم يأتي دور القدرة المنفذة.

الكتاب المنظور



“إنا كل شيء خلقناه بقدر” أي قدرنا الأمور على مواصفاتها وبما تحتاجه ثم أنشأناها وفق العلم والإرادة، وجاءت موافقة للمواصفات وإذا كنتم غير مصدقين فها هو مجالكم اليوم وفرصتكم التي أتيحت لكم بالعلم، فلقد أمكنكم الله تعالى من الدراسة والتمحيص، وكشف لكم ما يلزم من أسرار الكون، للوضوح والرؤية، وأدخلكم في بعض خزائن الأسرار وآتاكم من العلم ما يتيح لكم كشفها، “ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” الإسراء 85.

وقد مكنكم من ذلك حتى لا تكون لكم حجة بعد الرسل تحتجون بها وتقولون: ما درينا، وما علمنا، وما فهمنا، وما أخبرنا أحد..

“سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” فصلت 53

“هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين” لقمان 11.

انها دعوة مختصرة مجملة تتميز بالبساطة دون التعقيد ووضوح العرض دون الغموض (مقارنة بين أمرين) الله يقول لك أنا فعلت كذا، فماذا فعلت أنت؟ ومع عظم القضية المعروضة، ودرجة أهميتها العالية إلا أن القرآن يعرضها ببساطة ليستثير العقل البشري ويدفعه إلى التفكير الحر العميق دون مشوشات ومثبطات (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه”.

أنظر كيف أسس القرآن الكريم الحضارة الاسلامية؟ حتى القرآن الكريم ذاته أخضعه الله تعالى لعملية الدراسة والقياس والبحث والتنقيب والشرح والتجريب والتمحيص والمقارنة بين النظرية المكتوبة في المصحف والصور الكونية المشاهدة في الواقع (تطابق الكتاب المقروء مع واقع الكتاب المنظور).

شراب مختلف ألوانه



لقد أخضع بعض علماء الطبيعة بعض الصور التي عرضها القرآن الكريم للتجارب المخبرية بحثا فيها عن تناقض مع العلم لينسبوا إلى القرآن خطأ أو عيباً أو نقصاً، ولكنه بهرهم تماماً وأصابهم بالدهشة بعدما وجدوا في هذه الصور الدقة المتناهية والعديد من المشاهد الإعجازية، وقد تخصص في ذلك علماء شغلوا بهذا الفن الراقي من علوم القرآن والذي يبين تحديه واعجازه لكل البشر. (يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) النحل 69.

لقد أخضع علماء الطبيعة العسل للتجارب المخبرية فوجدوا أنه يقضي على الجراثيم والميكروبات والفيروسات عندما يوجه إليها مباشرة في وقت قياسي وبحث العلماء في كيفية توجه العسل مباشرة إلى الفيروسات، الموجودة في الجسد، وتمكين العسل من تخطي أعمال الهضم والخمائر المساعدة وعليه فإن القرآن الكريم أخبر بأن العسل فيه شفاء لعديد من الأمراض والشفاء أعم من العلاج والعلم لم يظهر تناقضاً بل أكد الحقيقة نفسها.

(فلا أقسم بما تبصرون. وما لا تبصرون. إنه لقول رسول كريم) الحاقة 38 40.

القسم بالمخلوقات



وإن القسم بالمخلوقات يبين لنا مدى القوة الكامنة فيها والدالة على خالقها سبحانه ليتفكر فيها العاقلون وينظر الناس إليها نظرة عظة واعتبار والقسم يعطينا لفتة انتباه مميزة، فلقد جمع بين الذي نبصره والذي لا نبصره في إحدى كفتي الميزان ووضع القرآن الكريم في الكفة الأخرى، فهل يمكنك أن تذكر شيئاً تعرفه ولا تتضمنه هذه الآية؟ وهل تلاحظ وضع القرآن الكريم بالنسبة للكون؟ إنها تركيبة دقيقة، وعرض رائع، فما أبدع كلام الله! وما أروع إحكامه وإتقانه!

إن ما نبصره نحن نراه وندركه ونعرفه، وهو واضح بيّن لنا: وأما ما لا نبصرره فسيأتي الحديث عنه.

أولاً: ما تبصرون: نرى الكون وما فيه من سماوات وأراض وشمس وكواكب ونجوم وجبال وأنهار، ونرى الرعد والبرق والسحاب والماء والصواعق “هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينشىء السحاب الثقال. ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء”. الرعد 12/13.

فنحن نشاهد (البرق، والسحاب، والرعد، والصواعق) ولكننا لا نفقهها ومع هذه الإشارة يجب أن نتفكر فيها، ونتدبر ورودها بهذه التركيبة القرآنية (فيصيب بها من يشاء) والإصابة إما أن تكون نعمة كالمطر المغيث وإما أن تكون نقمة وعقاباً لحكمة إلهية يعلمها هو وحده سبحانه، كالسيل الجارف وباقي الأمور الأربعة الواردة هنا في النص (البرق والرعد والصواعق)، والسحاب الثقال أيض كما يأتي بالغيث يأتي بالنار: فلقد أتى على قوم لوط “فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين، وأمطرنا عليهم مطراً فساء مطر المنذرين” النمل 57/58.

وقد أتى على أصحاب الأيكة قوم شعيب (قال ربي أعلم بما تعملون، فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم) الشعراء 188/189.

حيث أصابهم حر أقلقهم في بيوتهم، وكانوا عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدا، فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلما عطلوا حدا وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد اهلاكهم سلط الله عليهم حراً لا يستطيعون أن يتحملوه بحيث لا ينفعهم ظل ولا ماء، حتى ذهب ذاهب منهم، فاستظل تحت ظلة، فوجد روحاً، فنادى أصحابه: هلموا إلى الروح، فذهبوا إليه سراعا، حتى إذا اجتمعوا ألهبها الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلة لقوم شعيب.

فقد يستهين الإنسان بكائن ويستصغره ولكنه يحمل في داخله قوى كامنة إذا أمرها الله بأمر أتت عليه فجعلته كالرميم.

ثانيا: ما لا نبصره: “والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون” الحجر 19.

كل شيء في الكون موزون مقدر بخصائصه وصفاته، مهما كان كبيراً أو صغيراً فإن الذرة لها وزن ذري ونحن لا نراها بالعين المجردة وهذه الذرة رغم صغر حجمها إلا أنها تحمل قوة مدمرة، تؤثر على الأرض والكائنات الحية والجماد بالهدم والتحطيم والحرق والفناء ولا يحتاج الأمر إلا إلى القليل من العبث والتدخل المفسد وسيتحطم كل شيء في ثوان معدودة.